1

عشرون يوما، عشر دول وملاذ واحد

Macédoine / Photo: Ibrahim

رحلة شابين سوريين إلى سويسرا



يوسف، شاب سوري يبلغ من العمر 30 عامًا، عمل مهندسًا كهربائيًا في بلاده، وهي نفس المهنة التي لا يزال يمارسها الى اليوم في سويسرا. لكن يوسف عانى، رغم هذا الاستقرار الواضح في حياته، من مخاطر المنفى ولاقى مشاقا جمة كتلك التي يتعرض لها أي شخص يغادر بلاده من أجل مستقبل أفضل. تجدون فيما يلي تفاصيل رحلته مع أخته والصعوبات التي واجهاها في طريق الهجرة عبر الدول العشر التي عبراها من سوريا الى يوم وصولهما الى سويسرا

من لبنان الى تركيا

قرر يوسف وأخته الهروب من سوريا وتحديداً من مدينة دمشق مطلع شهر آب من عام 2015. فسافرا الى مدينة طرابلس بلبنان حيث ركبا باخرة باتجاه مدينة مرسين بتركيا واستغرقت رحلتهما مدة يومين. ثم استقلا بعد ذلك سيارة أجرة باتجاه مدينة ازمير ولكن الرحلة كانت أطول بكثير من الأولى واستمرت مدة ١٤ ساعة

في مرسين، تواصل يوسف مع مهرب يدعى « أبو موفق » وقد اتفق معه على مبلغ قدره ١١٠٠ دولار. انضم يوسف وأخته الى مجموعة من ٣ أشخاص وأقاموا في بيت المهرب مدة ستة أيام وهناك أصابهم جميعاً الجرب بسبب الوسائد والأغطية غير النظيفة

وفي مساء اليوم السادس تم الانطلاق مع مجموعات أخرى حيث بلغ العدد أربعين شخصاً تقريبا كلهم باتجاه مدينة بودروم – مكان انطلاق القوارب البحرية – والتي تبعد ساعتين عن ازمير. ولأن القارب كان غير جاهز للانطلاق، اضطر الجميع للانتظار على الشاطئ أربع ساعات ولكن دون جدوى حيث تغيب عنهم المهرب عدة ساعات ثم عاد بعد ذلك وأحضر لهم بعض الطعام وطلب منهم الاختباء لليوم التالي ثم سرعان ما لاذ بالفرار. وبعد انتظار دام أكثر من ١٩ساعة أوقفتهم الشرطة التركية واقتادتهم إلى أقرب محطة حافلات وعادوا إلى ازمير مجدداً

من تركيا الى اليونان

في اليوم التالي قاموا بمحاولة أخرى وذهبوا من جديد الى بودروم وكان وصولهم اليها على الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند شروق الشمس ركبوا في القارب وبدأت الرحلة بصلوات الجميع وبكاء الأطفال. وبعد الانطلاق بربع ساعة، قام الخفر التركي بمهاجمتهم في عرض البحر من أجل إرغامهم على الرجوع الى الشاطئ التركي ولكنهم لم يبالوا بهم وواصلوا الإبحار. قام الخفر التركي، بعد ذلك، بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء لإخافتهم وبعدة محاولات لإيقافهم دون جدوى. واضطرت قوات الخفر التركي الى الاستسلام وتركوهم حال سبيلهم. وبعد أقل من عشر دقائق، اعترضهم سريعاً الخفر اليوناني وتم اقتيادهم الى جزيرة كوس. وعند الوصول، تمت مرافقتهم الى مكتب لتسجيل أسمائهم من أجل الحصول على قرار طرد للخروج من اليونان.

Île Kos, Dodécanèse, Grèce / Photo: Ibrahim
من جزيرة كوس اليونانية ـ المصور: يوسف

اقتادتهم الشرطة اليونانية بعد ذلك الى معسكر ليقضوا هناك عدة ايام الى حين حصولهم على قرار الطرد ولكنهم قرروا جميعا الذهاب فورا لشراء تذاكر للسفر الى أثينا

Lieu indéterminé, Grèce / Photo: Ibrahim
في أحد الاماكن في اليونان ـ المصور: يوسف

من اليونان الى مقدونيا ومنها الى صربيا

في صباح اليوم التالي ركبوا في السفينة وقد استغرقت الرحلة ١٤ ساعة وعند وصولهم كان بانتظار يوسف واخته صديق العائلة الذي يملك شقة في أثينا وقد أقاموا هناك مدة ٤ أيام.

Au port d'Athènes, Grèce / Photo: Ibrahim
من أمام مرفأ أثينا ـ المصور: يوسف

بعد ذلك ركبوا الحافلة واتجهوا الى حدود مقدونيا وكان المقصد محطة القطار. استقلوا القطار المخصص لنقل اللاجئين إلى حدود صربيا واستمرت الرحلة ٨ ساعات وكان وصولهم عند منتصف الليل حيث بقوا منتظرين حتى الصباح خوفاً من اللصوص والعصابات التي كانت تترصد المسافرين على الطريق الواصل بين حدود صربيا ومقدونيا. انطلقوا مشياً باتجاه أول قرية في صربيا واستقلوا من هناك حافلة باتجاه العاصمة بلغراد حيث أقاموا بفندق لمدة يومين ومن ثم اتجهوا إلى حدود هنغاريا عبر حقول الذرة وخلال الطريق تفاجئوا بوجود شرطة توقف وتمنع المهاجرين من إتمام المسيرة لذلك قرروا الاختباء بين الحقول ريثما تغادر الشرطة المكان

من صربيا الى المجر

في صباح اليوم التالي وبالصدفة مر رجل وامراته وعرضوا عليهم أن يصحبوهم بالسيارة مقابل مبلغ مالي لمدينة بودابست المجرية وبالفعل تم ذلك وركبوا معهم وكانوا قرابة العشرين شخصا. وعند وصلوهم الى المدينة ونزولهم من السيارة تفاجئوا بوجود سيارتين للشرطة عندها بدأوا بالركض واختبئوا في موقف سيارات لمدة ٤ ساعات ومن بعد ذلك تواصلوا مع مهرب آخر وقال لهم أنه سوف تنتظرهم سيارتين في وسط المدينة بجانب فندق. لسوء الحظ كانت الشرطة بالمرصاد وصادرت السيارات واعتقلت السائقين

من المجر الى النمسا ومنها الى ألمانيا

عاودوا الاتصال بالمهرب مرة أخرى فطلب منهم الانتظار الى اليوم الثاني حتى يتدبر أمره ويوفر سيارتين جديدتين لتنقلهم إلى ألمانيا. فقضوا ليلتهم تلك في الحديقة الى صباح اليوم التالي ثم انطلقوا جميعهم باتجاهات مختلفة مرورا بالنمسا ومن دون أي توقف الى أن وصلوا أول قرية بألمانيا التي تسمى باساو ونزلوا فيها. أما باقي افراد المجموعة الذين كانوا برفقتهم فقد تعرضوا، لسوء حظهم، لعملية نصب وأرجعوا على إثرها الى صربيا

من المانيا الى سويسرا

قضى يوسف وأخته والمرافقين لهم أربع ساعات في الشارع لأنهم وصلوا الى القرية حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند الساعة السادسة صباحاً أوقفتهم الشرطة الألمانية واقتيدوا الى مركز للأمن ثم أطلق سراحهم ساعتين بعد ايقافهم. استقلوا إثر ذلك القطار باتجاه ميونخ وعند الوصول انفصل يوسف وأخته عن باقي المجموعة وكان بانتظارهما خالهما الذي اقلهما بسيارته لمدة أربع ساعات الى أن دخلا الأراضي السويسرية عبر مدينة راينفلدن في العشرين من شهر آب في العام نفسه

خلال 20 يومًا من رحلة الهجرة، عبر يوسف وشقيقته ما لا يقل عن عشر دول مختلفة قبل أن يطلبا اللجوء أخيرًا في سويسرا

يوسف : اسم مستعار 

دعاء شيخ البلد، محررة بصوت المهجر

La traduction française de cet article est accessible sur la page suivante: https://voixdexils.ch/2022/03/09/vingt-jours-dix-pays-un-exil/




خاطرة: نـبُوءَة طالبة

Nick Fewings – unsplash.com.

La version arabe de l’article « Réflexions sur la mort d’Akakyevich » paru sur Voix d’Exils le 11 mai 2017

« إذا نظرت إلى وجه شخص ما لفترة طويلة بما فيه الكفاية، فسوف تشعر في النهاية أنك تنظر إلى نفسك »

بول أوستر، كاتب ومخرج أفلام أمريكي

إحدى الشخصيات التي لا تُنسى في الأدب العالمي، والتي ابتكرها الكاتب الروسي نيكولاي غوغول (1809-1852) في قصته القصيرة الرائعة المعطف (1843)، هي شخصية أكاكي أكاكيفيتش

تَروي القصة سيرة حياة موظفٍ بسيط يعمل نسَّاخاً في إحدى الدوائر الحكومية في مدينة سانت بطرسبرغ في روسيا، حيث يتم دفعه إلى حَتْفه من قبل نظام بيروقراطي قاسٍ وخالٍ من التعاطف الإنساني. تُسَلط القصة الضوء على معاناة الطبقة الفقيرة في المجتمعات وظلم الإنسان لأخيه للإنسان

ترتبط بعضٌ من أعَزِّ ذكرياتي بقصة « المِعْطَف ». تأثرت بها كثيراً عندما قرأتها في السنوات الأولى لدراستي الجامعية. وفي وقت لاحق في الثمانينات, قمت بتدريسها ضمن منهاج وزارة التربية للغة الإنكليزية لطالبات المدرسة الثانوية في مسقط رأسي في مدينة القامشلي بسوريا

في الواقع، لم يكن التعليم وظيفة سهلة على الإطلاق في هذه المنطقة الريفية المُهملة في الشمال الشرقي من البلاد، والتي يسكنها بشكل رئيسي أحفاد اللاجئين الذين فرّوا من القتل في تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، كالسريان والأكراد والأرمن والآشوريين والكلدان وبالطبع العرب. أناسٌ، مازال بعضهم يعانون من صدمات نفسية نتيجة قِصَص الفظائع التي سمعوها من أهاليهم

كانت المدارس تَعْكِس الانقسامات الموجودة في المجتمع. الجوّ كان بعيدا عن الزمالة الدراسية. يجتمع عادة الطلاب في الصفوف ويجلسون على المقاعد وفق خلفياتهم العرقية والدينيّة. كان التواصل بينهم نادرًا، بينما كانت اللغات الأثنية المحلية يتردد صداها بانتظام في كل مكان. أضف إلى ذلك، لم يكن الطلاب أو أولياؤهم يهتمون كثيرا باللغة الإنجليزية كمادة دراسية

أما بالنسبة للمُدَرِّسين، فقد كان عليهم أن يجتازوا أولاً اختبارات التحامُل والقوالب النمطية، قبل أن يتمكّنوا من إكتساب ثقة الطلاب. ولسوء الحظ، كنت أحد هؤلاء المُدَرِّسين كوني أنْحَدرُ من عائلة أرمنية لاجئة نجت بأعجوبة من الإبادة الجماعية

ومع ذلك, تجربتي في تدريس قصة « المِعْطَف » كانت لها نتائج مختلفة تماماً! فمنذ القراءة الأولى للقِصة و التي عادة ما تستغرق قراءتها ثلاث حصص دراسية كل منها خمسون دقيقة وعلى مدى أسبوعين، كنت أرى حدوث تَغيير ملحوظ في سلوك طالباتي. فالاهتمام الشديد بسرد القصة بالإضافة إلى التعاطف العميق مع الموظف الصغير المسكين، كانا يحلان تدريجيّاً محل الثرثرة اليومية واللامبالاة المعتادة في الصف. كنّ يتابعن بتعاطفٍ كبير التدهور التدريجي في حياة أكاكيفيتش إثر تلقيه الصدمات الواحدة تلو الأخرى. الغريب في الأمر، بدا وكأنّ مأساة بطلنا كانت تُقَرّب المجموعات المختلفة من بعضها البعض. كان الصف يَنْفُضُ عن نفسه شيئاً فشيئاً القيود والحدود المعتادة، ويَكشِفُ عن المزيد من الألفة والود. فالفتيات كنّ يبدأن بالإقتراب من بعضهن،  وأحياناً يجلسن معاً في مقعد واحد ويتابعن القراءة من كتاب واحد! وتصبح الدردشات باللغة العربية الرسمية مسموعة أكثر. وهذا لم يكن بالأمر الاعتيادي!

لكن سقوط الموظف المسكين وموته المأساوي هو الذي كان يصْدمهنّ بشدّة ويجعل عيونهنّ تتلألأ بالدموع البريئة

كان هذا الحدث بمثابة تطهيرٍ للعواطف…

كنت أتساءل دائمًا، كيف يحدث كل هذا التحوُّل خلال فترة زمنية قصيرة جدًا؟ كيف يمكن أن تتلاشى طبقات التحامُل وانعدام الثقة في غضون أيامٍ قليلة وتَكْشف عن المشاعر الإنسانية العفوية كالتعاطف والحب؟ ما هو السر؟

ولدهشتي، جاءت الإجابة يوماً باللغة العربية من إحدى الفتيات. قالت بارتباكٍ ظاهر: « أستاذ »، « المِعْطَف » يروي قصة حياتنا البائسة! نحن في الواقع نَندُب مصيرنا التعيس، وليس مصير أكاكيفيتش… « ، ثم غَلبتْها العواطف ولم تستطع المتابعة

الآن، وبعد أن دخلت الحرب في سوريا عامها العاشر وأصبح نصف سكان البلد مشردين، أتذكر أحيانًا الكلمات النُبوئية لتلك الفتاة البالغة من العمر ستة عشر عامًا وأتساءل عن المكان الذي رماها فيه القدر وسط لعبة الحروب المجنونة هذه

هـــ . دونــو

عضو أسرة تحريرصوت المهجر – كانتون فو




لعبة العروش

Source: facebook.com

 

قصة نشوء وسقوط مدينة

جزءٌ مهمٌ من عملي كمترجم قانوني في مدينتي , القامشلي ، الواقعة في شمال شرق سوريا على الحدود مع تركيا ، كان التعامل مع طالبي اللجوء ، وخاصة العراقيين منهم, الذين لجأوا إلى سوريا هاربين من الدمار والفوضى العارمة التي لحقت بهم عقب الغزو الأمريكي لبلدهم عام ٢٠٠٣ وباتوا يبحثون عن اللجوء في البلدان الغربية.
كنت أقوم بتجهيز ملفاتهم: ترجمة الوثائق ، تحديد المواعيد مع السفارات ، ملء الاستمارات إلخ… . العديد من العائلات كانت تأتي إلى مكتبي، ولكلٍ منها قصة مؤلمة للغاية عن الاضطهاد والظلم والتهجير. كان من المحزن جداً سماع روايات هؤلاء الناس الذين عاشوا في يومٍ من الأيام حياةً مستقرةً ومريحة إلى حد ما ، ثم انقلب فجأة عالمهم رأسا على عقب, ففقدوا كل شيء وأصبحوا مشردين بلا مأوى في بلدانٍ أخرى.
في الواقع لم تكن قصصهم غريبة تماماً بالنسبة لي بحكم كوني أنا أيضاً سليل عائلة لاجئة. كان جدي الناجي الوحيد من بين عائلة كبيرة أُبيدَتْ خلال مجازرالأرمن والمسيحيين في تركيا أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى, فحكايات النزوح والقتل الجماعي كانت تُطاردُ ذاكرتي مذ كنتُ طفلاً.
ومع ذلك، عندما كنت أقوم بترجمة قصصهم وأستمع إلى التفاصيل التي يسردونها بدقّة متناهية اعتقاداً منهم بأنها ستُسهّل عملية منحهم اللجوء, لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي أبدا من التفكير بما يُمكن أن يحصل لسوريا إن اشتعلت فيها حربٌ مدمرةٌ مثلما حصل في العراق ! إن مجرد التفكير في ذلك كان شيئاً مرعباً ورهيباً !
ولكن ما كنت اتصوره آنذاك ضرباً من المستحيل أصبح حقيقةً واقعة في عام ٢٠١١. اندلعت الحرب الأهلية فجأةً في البلد وانطبقت السماء على الأرض وفُتِحَ  » صندوق باندورا « 1 مع كل شرور البشرية على أوسع نطاق.
هذه المرة ، بدأت الوجوه القلِقة والمضطربة لأبناء مدينتي بالتدفق إلى مكتبي، حاملين معهم إلى جانب وثائقهم الثمينة ، قصصاً فظيعة عن عمليات خطفٍ ونهبٍ وقتل, إثر انهيارٍ كامل للنظام الأمني وتعطلٍ تام للخدمات الحيوية وسقوطِ قسم كبير من الأراضي المحيطة بالمدينة في أيدي داعش.
من سخرية القدر, أنَّ أحفاد أولئك اللاجئين الذين أسّسوا هذه البلدة الحدودية الجميلة منذ مائة عام كملاذٍ آمنٍ من الاضطهاد والتشرد، أصبحوا الآن يهرولون محاولين الفرارَ منها هرباً من الدمار والقتل الوشيك، باحثين عن اللجوء في السويد وألمانيا ودولٍ أوروبيةٍ أًخرى.
انطفأت فجأة أضواء المدينة المتعددة الأعراق والمُفعمة بالحيوية. تلاشت الفعاليات المزدحمة, اختفت أصوات الأطفال في الأزقّة وأصبحت الشوارع مهجورة لا حياة فيها.
قصة حزينة أخرى لنشوء وسقوط مدينة في لعبة العروش اللانهائية.
هــ. دونو H.Dono1.
1- صندوق باندورا في الميثولوجيا الإغريقية، صندوق يتضمن كل شرور البشرية.
Traduction en arabe de l’article initialement publié en français dans Voix d’Exils le 21.09.2016 sous le titre: » Réflexion sur l’ascension et la chute d’une ville« 



خواطر رمضانية

 

Auteur: oranfireblade – pixabay.com CC0 Creative Commons

 

مثلما الموسيقى والروائح يمكن أن تحرّك فينا أحيانا العواطف وتُعِيدنا عبر الزمن إلى الوراء، كذلك كان حلول شهر رمضان هذا العام, فقد أثار مشاعر مختلطة في نفسي، أنا غير المُسلم الساكن على بعد مئات الأميال من بلدي سوريا. 

قبل الحرب، وعلى مدى ثلاث عقود، كنت أعيش في حي متعدد الأعراق في مسقط رأسي بمدينة القامشلي بسوريا. كان جيراني المقربون من العرب والأكراد والسريان والأرمن… يعيشون في انسجام تام. ما زلت أتذكر بكثيرٍ من الود، هؤلاء الناس وأفتقدهم كثيراً.

يُعَدُّ شهر رمضان مناسبة دينية هامة تؤثر في جميع جوانب حياة المسلمين. يبدأ الصيام من الفجر إلى الغروب حيث يتم الامتناع عن تناول الطعام والشراب والتدخين لمدة 29-30 يوما.

ومع ذلك، فإن رمضان ليس شهر صيامٍ وصلاةٍ فحسب، بل أيضاً شهر مشاركةٍ وتضامن. أما بالنسبة لي، كوني مهتمٌ بالجانب الروحي الكامن وراء الأديان، كان أيضًا تجربة فريدة من نوعها. عائلتي وأنا، وكثير من غير المسلمين، كانوا ينتظرون بفرحٍ قدوم هذا الشهر مثل معظم السوريين. كان سماع دَوي مدفع رمضان التقليدي إيذانا ببدء شهر الصيام.

في اليوم الأول وقبل الفجر، كنت أقفز  من فراشي على  صوت قرع طبل « المسحراتي » الرتيب والمتكرر وهو يدعو سكان الحي إلى الاستيقاظ لتناول وجبة السحور. الغريب في الأمر, أن مهنة  « المسحراتي » التي عفا عليها الزمان، كانت لا تزال تُمارس في ضواحي بعض الأحياء، وأصبحت تتمتع بشعبية كبيرة بفضل المسلسلات السورية الشهيرة قبل الحرب.

بعد ذلك، وابتداءً من ظهر نفس اليوم، تبدأ معمعة المطابخ وعمل ربات البيوت لإعداد أطباق « الإفطار ». تتعالى تدريجياً قرقعات أواني المطبخ، وتنبعث روائح التوابل القوية للوجبات المنزلية الشهية من الأرز والبرغل والدجاج المشوي والحلويات المحلية اللذيذة، لتملأ أركان عمارتنا وتَعْبق بها طويلاً، ناشرة نكهة وروح شهر رمضان.

قبل صلاة المغرب، كنت أقفل مكتبي وأعود إلى البيت مثل جميع السُكّان. في طريق عودتي أمرّ بسوق المدينة. كان المشهد دائماً مثيراً جداً واستثنائياً في هذا الوقت من العام. يشقّ المرء طريقه بصعوبة بالغة وسط صخب وضجيج الحشود المُنهمكة بشراء احتياجاتها قُبيل سَماع دَوي مدفع الإفطار. صرخات الباعة المتجولين تَصمّ الآذان. قرقعة الكؤوس النحاسية لبَاعة العرقسوس والتمرهندي تتصاعد في كل مكان. عربات الدفع الصغيرة تملأ الساحة وتَسدُ الممرات وتجْعل من السير مشقّة حقيقية. أما المحلات الكبيرة والصغيرة، فتكتظ بكل أنواع الأطعمة والحلويات الرمضانية التقليدية الشهية. المُتَسوقون المٌنهكون، ومعظمهم من الرجال، كون النساء لديهن مهام مطبخية في المنزل، يستعجلون للوصول إلى منازلهم لتناول الإفطار مع عائلاتهم. في هذه الأثناء، أتَدَافع وسط الزحام لأشتري الخبز الرمضاني الطازج  » المعروك « ، وبعض الحلويات الأخرى مثل المشبك، قمر الدين ، والتمور … . لم يكن أولادي يتوقعون عودتي إلى المنزل خالي الوفاض.

قبل سماع دوي المدفع بقليل, تصبح الشوارع مهجورة تمامًا وتتوقف الحياة في المدينة. فقط أصوات الآذان ترتفع من المساجد، وبالطبع، قرقعة الصحون والملاعق وأصوات الجيران من الشُرفات القريبة. إنه الإفطار ، وقت لمّ شَمل الأهل للاستمتاع بالوجبات اللذيذة والمشاركة بفرحة وروحانية رمضان.

بعد « الإفطار » مباشرة، تترقب العائلات بشغف كبير بَث الحلقة الأولى من المُسلسلات الرمضانية السورية الشهيرة التي تُبْقيهم مُلتصقين بأجهزة التلفاز حتى اليوم الأخير من الشهر الفضيل.

لم يبق الآن سوى أياماً مَعْدودة على نهاية شهر الصيام. أفَكِرُ في حَينا الذي أصبح خالياً من أهله والمدينة الجميلة التي أصبحت شبه مهجورة، وآلاف الأسر السورية النازحة والمُشتتة التي تعيش في مخيمات لجوء مؤقتة في ظل ظروفٍ لا إنسانية، تكافح من أجل الحصول على وجبة إفطارٍ بسيطة.

دونو هـ

Version française du texte

La version française du texte est parue dans Voix d’Exils sous le titre « Le ramadan vu par un syrien non-musulman » le 20 juin 2017. Cliquez ici pour accéder à la version française du texte




زارع الأمل

Père Frans van der Lugt. source : Facebook / Couvent des pères Jésuites

الأب فرانس فان دِر لُوخت (١٩٣٨-٢٠١٤)

يصادف اليوم السابع من نيسان / أبريل ٢٠١٨ مع الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال الأب فرانس فان دِر لُوخت Frans van der Lugt ، الكاهن اليسوعي الهولندي الأصل البالغ من العمر ٧٥ عاما, والذي كرّس أكثر من ٥٠ عاما من حياته لخدمة الشعب السوري. ولِد فرانس في هولندا في عام ١٩٣٨ في أسرة ثريّة من المصرفيين. دَرَس اللاهوت والفلسفة والعلاج النفسي واللغة العربية، ثم انتقل إلى سوريا في عام ١٩٦٦ ليعيش هناك بقية حياته.

قُتِلَ الأب فرانس بوحشّية من قبل رجل مسلح مُلثّم في ٧ نيسان / أبريل ٢٠١٤ صباحاً, في دار الآباء اليسوعيين بحي بستان الديوان، في حمص- سوريا.

الحصار

عندما اندلعت الحرب في البلاد في آذار / مارس ٢٠١١، وقعت مدينة حمص القديمة, بما في ذلك الحي المسيحي في بستان الديوان حيث يقع دار الآباء اليسوعيين , في أيدي المتمردين الإسلاميين , ولكن سرعان ما حوصرت من قبل الجيش السوري.

اختار الأب فرانس البقاء في المنطقة المحاصرة الواقعة تحت القصف المتبادل اليومي ونيران القناصة، ليتقاسم معاناة ومحنة المسيحيين والمسلمين على السواء. يقول فرانس: « حبّيت الشعب السوري كتير.. شاركتو بأشيا جميلة وتلقيت من فيض الشعب. هلا بنشوف انه هل الشعب عم يتعذب .. بحب اكون معه حتى نحضر مع بعضنا المخاض والعبور والولادة الجديدة « .

خلال الحصار الرهيب الذي دام ٣ سنوات حتى أيار/ مايو٢٠١٤, مُنعت جميع الإمدادات والمساعدات، ولم يُسمح للأشخاص بالدخول أو الخروج. كان فرانس يجوبُ شوارع وأزقة الجَيب المُحاصر على دراجته أو سيراً على الأقدام محاولاً الوصول إلى المصابين، والمرضى والذين كانوا يعانون من صدمات نفسية ليقدم لهم الدعم، المشورة النفسية وبعض الخبز والزيتون والبرغل، إذا ما أمكن توفيرها.

قام الأب فرانس بإيواء العائلات النازحة من مسلمين ومسيحيين التي هجّرهم القصف والدمار في دار الآباء اليسوعيين، وسجّل عددا من أشرطة الفيديو يطالب المجتمع الدولي بمعالجة المأساة الإنسانية في المنطقة المحاصرة بشكل عاجل. يقول الأب هلال « لقد أصبح دار الآباء اليسوعيين مركزاً للمصالحة بفضل الأب فرانس ».

شافعة الرفاعي، أمٌ مسلمة نازحة وَجدتْ ملجأً مع أطفالها في دار اليسوعيين, أفادت لوكالة فرانس برس:  » كان يُزوّدنا بالمواد الغذائية وحليب الأطفال ويُقيم أنشطة للأطفال ويقدم لهم الحلويات والهدايا … ».  أفاد رجل آخر لمراسل صحيفة ديلي ستار « أخذ الأب فرانس والدي المريض على دراجته إلى المشفى الميداني على الرغم من القصف » . لم يُميَز فرانس مطلقاً بين الأديان: «أنا لا أرى مسلمين أو مسيحيين، أرى قبل كل شيء بشراً  «

الطبيب النفسي والمُمارِس المتمرس لرياضة اليوغا والزن « التأمل البوذي »

قبل سنوات من بداية هذه الحرب المُروعة، مئات من الناس من حمص وأماكن أخرى في سوريا كانوا يأتون إلى دار اليسوعيين في بستان الديوان طلباً للمساعدة والمشورة. « كطبيب نفسي ومُمارِس مُتمرس للرياضات الروحية, ساعد أبونا فرانس المئات, لم يسبق له أن رفض أحداً », يقول عبد المسيح, طبيب نفسي من أصل سوري يعيش في لوزان, سويسرا، مضيفاً : » لقد شاركتُ ولمدة سنوات في مختلف أنشطته الشبابية. كنت مندهشاً كيف كان بمقدوره أن يجد دائما الوقت الكافي ليُصْغي بصبرٍ وتأنٍ إلى الجميع على الرغم من جدول أعماله المكتّظ جداً. ربما كان ينام ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً. كان رجل دين استثنائي بكل معنى الكلمة! »

المسير « إلى الأمام »

كان فرانس يعشقُ سوريا. في عام ١٩٨١ نظّم أول مَسير أو رحلة على الأقدام كما كان يسميها أحياناً. كان يتم المَسير في الصيف أو في الشتاء، عبر الصحراء السورية والمناطق الجبلية والريفية، ويستمر ثمانية أيام في السنة. كان الهدف منه اكتشاف جمال الطبيعة السورية وعيش تجربة لا تُنسى من المشاركة والتضامن. يقول الأب فرانس » في نهاية كل مسير بنكتشف إنو مافي حدا ما بينحب« . لمدة ثلاثين عاماً متتالية، قاد المُشاركين في المسير عبر الطرقات الوعرة مردداً شعاره المعروف والمحبوب « إلى الأمام ». شارك في هذه الفعالية آلاف الشبان من جميع الأديان ومن كل أنحاء سوريا. كان يبدو, وهو في سن متقدمة, أكثر حيوية ونشاط من الشباب. المشاركون في المسير كانوا يستمدون منه القوة والقُدرة على التحمّل.  » أبونا فرانس كان مرشداً روحياً وأباً للجميع » تقول مروة، شابة من سكان بستان الديوان لغاية عام ٢٠١١، تعيش حالياً في فيينا، النمسا.

الأرض

في عام ١٩٩١، شارك الأب فرانس في تأسيس مشروع الأرض، على مساحة ٢٣ هكتار من الأراضي الزراعية في ضواحي حمص على صلة بالقرى المسيحيّة والإسلاميّة المجاورة. مشروعٌ ضخم غير مسبوق للتنمية الريفية والاجتماعية يهدف إلى إعادة تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة العقلية، ومكافحة نزوح السكان من الريف والهجرة، فضلا عن توفير مكان كملاذ روحي للحوار بين الأديان (انظر الفيديو أعلاه). الاسم نفسه ذات مغزى « الأرض »، فهو يؤكد على ارتباط الإنسان بالأرض والبيئة كعامل موحد للجميع دون تمييز.

زارِع الأمل

في مجتمع مُنقسم عرقياً ودينياً، ساعد الأب فرانس على بناء الجسور وإيجاد أسس مشتركة تقوم على القيم الإنسانية. تقول مُنتهى التي شاركت ولفترة طويلة في نشاطات فرانس المتعددة ، وتعيش حالياً في لوزان: « كان نموذجاً مختلفاً من رجال الدين, متواضع، مثقف وغير نمطي. أحبّ مرافقة الناس العاديين وتكلمَ لغتهم, « العربية العامية ». كان لديه الشجاعة لفتح النوافذ والسماح للهواء النقي بالدخول! لهذا السبب كان محبوب جداً من قبل الشباب ».

دمّرتْ الحرب جميع مشاريع فرانس ولكنها لم تُدمِّر أبداً إيمانه وتفانيه لخدمة الشعب السوري. كان قد توصل إلى سلام مع نفسه ومع الله, وبقي صادقاً لدعوته في مساعدة المحتاجين وبناء جسور المصالحة والسلام.

البذور التي زرعها رُبّما تستغرق وقتاً طويلاً لتنمو في بلدٍ مزقته ٧ سنوات حربٍ مروعة وأعمال عنفٍ وكراهية . مع ذلك, فإن الكثير منها قد نمت بالفعل في أوروبا )انظر الفيديو المرفق حول مسير فرانس في هولندا,( وسوريا وفي أنحاء أخرى من العالم، كما هو الحال مع منتهى، وعبد المسيح، وشافعة ومع مروة ,التي اختتمت شهادتها بتأثُرٍ بالغ : « أبونا فرانس مصدر إلهامي وسبب اندماجي هنا في النمسا. هو مَن جعلني ما أنا عليه الآن! »

هايرنيك دونو

http://www.bbc.com/news/magazine-27155474

Informations

La version française de l’article: Le semeur d’espoir publié le 28 mars 2017 dans Voix d’Exils

The English version of the article The hope giver published on the 3th of April 2017