1

رحلة عسكري منشق

Illustration: L. B. / Voix d’Exils

يختار اللجوء بدل سفك دماء بني وطنه



عصام، لاجئ سوري في سويسرا، من مواليد ١٩٩٢، يروي لدعاء شيخ البلد، محررة بصوت المهجر، قصة فراره من الخدمة العسكرية سنة 2011 والأهوال التي لقيها في طريق هجرته

بدأ عصام بتأدية الخدمة العسكرية الاجبارية سنة ٢٠١١ وكان ذلك قبل الحرب السورية بشهرين وقد شهد عدة مجازر عند بدء الحرب في درعا ولكنه لم يشارك فيها لأنه لم يرد سرقة حياة أحد والتورط بقصص الإجرام. واتخذ على هذا الأساس القرار بالفرار من سوريا. فطلب آنذاك إجازة من خدمته العسكرية وذهب الى بيته في القامشلي مسقط رأسه فيث قضى فيها يومان وخلال تلك المدة تواصل والده مع مهرب لمساعدة ابنه على الخروج من البلاد. وفي مساء اليوم التالي سافر عصام مع شابين اخرين يشتركان معه نفس قصته بصحبة المهرب الى قرية صغيرة حدودية ولأنها كانت قرية كردية طلبوا منهم التطوع بالقوات الكردية ولكن عصام ورفاقه رفضوا ذلك وهربوا على الفور

الهروب من سوريا

غادر عصام ومرافقيه القرية الحدودية صحبة المهرب وتوجهوا إلى نهر دجلة في منتصف الليل واستقلوا قاربًا صغيرًا كان قد أعده المهرب. لسوء الحظ، طاردتهم مجموعة حدودية مسلحة من أكراد العراق، أثناء تقدمهم في النهر، فأصبحوا هدفًا لوابل من الرصاص ورموا بقنبلة يدوية ضوئية. ومع استمرار إطلاق النار، أصيب أحد الجنود الفارين برصاصة في رأسه. وعندما وصلوا إلى الطرف المقابل للنهر في إقليم كردستان  العراق، فر المهرب، بعد منتصف الليل، تاركا عصام وصديقه بمفردهم مع الجندي الجريح

حمل عصام والشاب الاخر رفيقهما المصاب ومشوا به لعدة ساعات بين الجبال دون أن يعرفا ما إذا كانت الوجهة صحيحة أم لا. بعد عدة ساعات من المشي بدأوا بالصراخ لعل أحدهم يسمع صوتهم وينقذهم. وبعد ذلك شاهدوا ضوء يتقدم باتجاههم من بعيد وإذا هو أحد أفراد قوات البيشمركة يلوح لهم بيده وسارعت سيارة لتلك القوات لحمل المصاب الذي يحملانه. ركبوا جميعهم السيارة باتجاه المستشفى غير أن الشاب كان قد فاضت روحه، مع الأسف، قبل وصولهم بقليل

قضى عصام ورفيقه تلك الليلة كاملة في المستشفى وفي صباح اليوم التالي قام الضباط بفتح تحقيق معهما ليعرفوا ملابسات ما حصل واستمر التحقيق لمدة ثلاثة أيام. وبعد ذلك تم إطلاق سراحهما بشرط ألا يغادرا المدينة ريثما تنتهي القضية

أمضيا الثلاثة الأيام الأولى للعزاء عند أقارب المتوفى وبعد ذلك ذهب عصام وصديقه للبحث عن مأوى لهم. فعثر عصام، من جهته، على فرصة للعمل في معمل للبلاستيك حيث ينام أيضاً. اشتغل هناك مدة شهرين وخلال تلك الفترة اصطحبت الشرطة عصام لموقع الحادثة لكي يتأكدوا من تفاصيل ما حدث وقتذاك. بعد ذلك انتقل الى مدينة دهوك للحصول على اقامة تسمح له بالبقاء والتنقل بين المناطق الكردية العراقية. ثم انتقل بعد شهرين الى مدينة أربيل وعمل هناك كنادل لمدة سنة.

عمل عصام، إثر ذلك، في شركة للمعدات الكهربائية من عام ٢٠١٤ إلى ٢٠١٧ وساهم خلال تلك السنوات في إرسال المعدات والمواد الغذائية للمناطق الكردية السورية المحاصرة من قبل داعش عن طريق معبر فيشخابور. ثم انتقل للعمل، بعد ذلك، في مطعم الى عام ٢٠١٩ وخلال هذه الفترة حاول الحصول على جواز سوري بشتى الوسائل لكي يتمكن من التنقل بين المدن العراقية ولكن دون جدوى لأنه عسكري منشق عن النظام السوري ولا يحق له وفقاً للقوانين السورية الحصول على جواز للسفر

رحلة اللجوء الى اوروبا

بدأت رحلة اللجوء عام 2020 عندما قرر عصام إنهاء كافة أعماله في أربيل وقام والده بالتواصل مع مهرب اخر والذي طلب من عصام الانتقال الى مدينة زاخو بغاية العبور الى تركيا وهناك أقام عنده ليلتان عبر، على اثرهما، النهر سباحةً مع مجموعة أخرى باتجاه تركيا واستغرق وصولهم إلى أول قرية تركية مدة خمس ساعات. ثم استقلوا سيارة باتجاه اسطنبول وخلال الطريق تعرض عصام، للأسف الشديد، لعملية سرقة لنقوده من قبل أتباع المهرب

في إسطنبول، تواصل عصام مع مهرب آخر وأقام عنده عدة أيام تخللتها محاولات للعبور الى اليونان. أوصل المهرب عصام مع مجموعة أخرى الى الحدود التركية اليونانية. وعند وصلوهم إلى هناك مشوا قرابة الثلاثين كيلومتراً حيث يصعب استخدام السيارات بسبب انتشار الشرطة اليونانية على كامل الحدود التركية اليونانية. رغم ذلك استطاع الجميع تحقيق هدفهم في الوصول الى أثينا

الطريق الى أثينا ومنها الى سويسرا

لسوء الحظ، أمسكت بهم دورية شرطة يونانية فور وصولهم الى أثينا وسلمتهم وجميع أمتعتهم للجانب التركي على الحدود اليونانية التركية حيث تم ايقاف كامل المجموعة وسجنهم لمدة أسبوع. لكن عصام لم ييأس ولم يستسلم فقام بعدة محاولات أخرى للعبور الى اليونان ولكنها باءت جميعها بالفشل

وفي المرة الأخيرة، وعند وصوله الى الحدود اليونانية التركية، تعرف على مجموعة من الشباب اللذين كانوا يريدون مثله العبور باتجاه اليونان. فمشوا جميعهم مدة ١١ يوما باتجاه سالونيك حتى وصلوا إلى ضيعة قرب المدينة ومن هناك استقلوا حافلة باتجاه أثينا.

وعند وصولهم الى ميدان أمونيا، تواصلوا مع أناس سوريين واستأجروا شقة عن طريق المهرب حيث أقاموا فيها عدة أيام ريثما يتم تأمين جوازات سفر مزورة لهم. وتم الأمر بنجاح وكان لهم ما أرادوا وسافر عصام جوا مباشرةً من اليونان باتجاه سويسرا حيث تم قبول مطلبه في اللجوء السياسي بعد شهر من وصوله

دعاء شيخ البلد

محررة بصوت المهجر

La traduction française de cet article est accessible sur la page suivante: https://voixdexils.ch/2022/12/31/lexil-dun-soldat-deserteur-syrien/




عشرون يوما، عشر دول وملاذ واحد

Macédoine / Photo: Ibrahim

رحلة شابين سوريين إلى سويسرا



يوسف، شاب سوري يبلغ من العمر 30 عامًا، عمل مهندسًا كهربائيًا في بلاده، وهي نفس المهنة التي لا يزال يمارسها الى اليوم في سويسرا. لكن يوسف عانى، رغم هذا الاستقرار الواضح في حياته، من مخاطر المنفى ولاقى مشاقا جمة كتلك التي يتعرض لها أي شخص يغادر بلاده من أجل مستقبل أفضل. تجدون فيما يلي تفاصيل رحلته مع أخته والصعوبات التي واجهاها في طريق الهجرة عبر الدول العشر التي عبراها من سوريا الى يوم وصولهما الى سويسرا

من لبنان الى تركيا

قرر يوسف وأخته الهروب من سوريا وتحديداً من مدينة دمشق مطلع شهر آب من عام 2015. فسافرا الى مدينة طرابلس بلبنان حيث ركبا باخرة باتجاه مدينة مرسين بتركيا واستغرقت رحلتهما مدة يومين. ثم استقلا بعد ذلك سيارة أجرة باتجاه مدينة ازمير ولكن الرحلة كانت أطول بكثير من الأولى واستمرت مدة ١٤ ساعة

في مرسين، تواصل يوسف مع مهرب يدعى « أبو موفق » وقد اتفق معه على مبلغ قدره ١١٠٠ دولار. انضم يوسف وأخته الى مجموعة من ٣ أشخاص وأقاموا في بيت المهرب مدة ستة أيام وهناك أصابهم جميعاً الجرب بسبب الوسائد والأغطية غير النظيفة

وفي مساء اليوم السادس تم الانطلاق مع مجموعات أخرى حيث بلغ العدد أربعين شخصاً تقريبا كلهم باتجاه مدينة بودروم – مكان انطلاق القوارب البحرية – والتي تبعد ساعتين عن ازمير. ولأن القارب كان غير جاهز للانطلاق، اضطر الجميع للانتظار على الشاطئ أربع ساعات ولكن دون جدوى حيث تغيب عنهم المهرب عدة ساعات ثم عاد بعد ذلك وأحضر لهم بعض الطعام وطلب منهم الاختباء لليوم التالي ثم سرعان ما لاذ بالفرار. وبعد انتظار دام أكثر من ١٩ساعة أوقفتهم الشرطة التركية واقتادتهم إلى أقرب محطة حافلات وعادوا إلى ازمير مجدداً

من تركيا الى اليونان

في اليوم التالي قاموا بمحاولة أخرى وذهبوا من جديد الى بودروم وكان وصولهم اليها على الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند شروق الشمس ركبوا في القارب وبدأت الرحلة بصلوات الجميع وبكاء الأطفال. وبعد الانطلاق بربع ساعة، قام الخفر التركي بمهاجمتهم في عرض البحر من أجل إرغامهم على الرجوع الى الشاطئ التركي ولكنهم لم يبالوا بهم وواصلوا الإبحار. قام الخفر التركي، بعد ذلك، بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء لإخافتهم وبعدة محاولات لإيقافهم دون جدوى. واضطرت قوات الخفر التركي الى الاستسلام وتركوهم حال سبيلهم. وبعد أقل من عشر دقائق، اعترضهم سريعاً الخفر اليوناني وتم اقتيادهم الى جزيرة كوس. وعند الوصول، تمت مرافقتهم الى مكتب لتسجيل أسمائهم من أجل الحصول على قرار طرد للخروج من اليونان.

Île Kos, Dodécanèse, Grèce / Photo: Ibrahim
من جزيرة كوس اليونانية ـ المصور: يوسف

اقتادتهم الشرطة اليونانية بعد ذلك الى معسكر ليقضوا هناك عدة ايام الى حين حصولهم على قرار الطرد ولكنهم قرروا جميعا الذهاب فورا لشراء تذاكر للسفر الى أثينا

Lieu indéterminé, Grèce / Photo: Ibrahim
في أحد الاماكن في اليونان ـ المصور: يوسف

من اليونان الى مقدونيا ومنها الى صربيا

في صباح اليوم التالي ركبوا في السفينة وقد استغرقت الرحلة ١٤ ساعة وعند وصولهم كان بانتظار يوسف واخته صديق العائلة الذي يملك شقة في أثينا وقد أقاموا هناك مدة ٤ أيام.

Au port d'Athènes, Grèce / Photo: Ibrahim
من أمام مرفأ أثينا ـ المصور: يوسف

بعد ذلك ركبوا الحافلة واتجهوا الى حدود مقدونيا وكان المقصد محطة القطار. استقلوا القطار المخصص لنقل اللاجئين إلى حدود صربيا واستمرت الرحلة ٨ ساعات وكان وصولهم عند منتصف الليل حيث بقوا منتظرين حتى الصباح خوفاً من اللصوص والعصابات التي كانت تترصد المسافرين على الطريق الواصل بين حدود صربيا ومقدونيا. انطلقوا مشياً باتجاه أول قرية في صربيا واستقلوا من هناك حافلة باتجاه العاصمة بلغراد حيث أقاموا بفندق لمدة يومين ومن ثم اتجهوا إلى حدود هنغاريا عبر حقول الذرة وخلال الطريق تفاجئوا بوجود شرطة توقف وتمنع المهاجرين من إتمام المسيرة لذلك قرروا الاختباء بين الحقول ريثما تغادر الشرطة المكان

من صربيا الى المجر

في صباح اليوم التالي وبالصدفة مر رجل وامراته وعرضوا عليهم أن يصحبوهم بالسيارة مقابل مبلغ مالي لمدينة بودابست المجرية وبالفعل تم ذلك وركبوا معهم وكانوا قرابة العشرين شخصا. وعند وصلوهم الى المدينة ونزولهم من السيارة تفاجئوا بوجود سيارتين للشرطة عندها بدأوا بالركض واختبئوا في موقف سيارات لمدة ٤ ساعات ومن بعد ذلك تواصلوا مع مهرب آخر وقال لهم أنه سوف تنتظرهم سيارتين في وسط المدينة بجانب فندق. لسوء الحظ كانت الشرطة بالمرصاد وصادرت السيارات واعتقلت السائقين

من المجر الى النمسا ومنها الى ألمانيا

عاودوا الاتصال بالمهرب مرة أخرى فطلب منهم الانتظار الى اليوم الثاني حتى يتدبر أمره ويوفر سيارتين جديدتين لتنقلهم إلى ألمانيا. فقضوا ليلتهم تلك في الحديقة الى صباح اليوم التالي ثم انطلقوا جميعهم باتجاهات مختلفة مرورا بالنمسا ومن دون أي توقف الى أن وصلوا أول قرية بألمانيا التي تسمى باساو ونزلوا فيها. أما باقي افراد المجموعة الذين كانوا برفقتهم فقد تعرضوا، لسوء حظهم، لعملية نصب وأرجعوا على إثرها الى صربيا

من المانيا الى سويسرا

قضى يوسف وأخته والمرافقين لهم أربع ساعات في الشارع لأنهم وصلوا الى القرية حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند الساعة السادسة صباحاً أوقفتهم الشرطة الألمانية واقتيدوا الى مركز للأمن ثم أطلق سراحهم ساعتين بعد ايقافهم. استقلوا إثر ذلك القطار باتجاه ميونخ وعند الوصول انفصل يوسف وأخته عن باقي المجموعة وكان بانتظارهما خالهما الذي اقلهما بسيارته لمدة أربع ساعات الى أن دخلا الأراضي السويسرية عبر مدينة راينفلدن في العشرين من شهر آب في العام نفسه

خلال 20 يومًا من رحلة الهجرة، عبر يوسف وشقيقته ما لا يقل عن عشر دول مختلفة قبل أن يطلبا اللجوء أخيرًا في سويسرا

يوسف : اسم مستعار 

دعاء شيخ البلد، محررة بصوت المهجر

La traduction française de cet article est accessible sur la page suivante: https://voixdexils.ch/2022/03/09/vingt-jours-dix-pays-un-exil/




هكذا يتبدد الظلام

Kristine Kostava / Voix d’Exils.

بين الواقع والخيال

يدعوكم محررنا رشيد بوخميس، في هذه الرواية، الى التعرف على التحول الاستثنائي في حياة الطفل اليتيم بلال

عاش يتيما بعدما فقد كلا أبويه في حادث انزلاق التربة في قريته من ولاية ميلة الجزائرية، وهو في الثالثة من عمره. كفلته جدته لأبيه وهي في الخامسة والخمسين من العمر. من كثرة الإشفاق عليه وحرقة الثكل، تركته يفعل ما يريد وأودعته الشارع مع أترابه. ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة وارتاد الأوكار تعلم فيها كل فنون الانحراف والشذوذ، فصار الجيران يشكونه إليها لتصرفاته الطائشة وينعتونه بالشقي، وهي تدافع عنه بكل ما لديها من وسائل، بلغت حد العراك والملاسنة الكلامية

مد « بلال » الطفل اليتيم يده في بادئ الأمر إلى السجائر، تعلم بعدها كل ما يرتبط بهذا السم، وصار مدمنا على مغيبات العقل. يهدد جدته بشتى الوسائل ليحصل على ما وفرته في حصيلتها، غير أنها كانت تبالغ في دلالها  له مما زاده رعونة وطيشا

كان يحلم بالسفر إلى أوربا ليستمتع بما حرم منه في بلده المحافظ، بعيدا عن أعين أهله وذويه، في منأى عن القوانين العرفية التي تضايقه وتعتبر تصرفاته خارجة عن المألوف ومنافية لقانون المجتمع المسلم

الطريق الى فرنسا

تعرف بلال على منى، الشابة الفرنسية من أصول جزائرية التي قدمت لتقضي عطلتها الصيفية في إحدى المدن الجزائرية القريبة من الساحل. تطورت العلاقة إلى اتفاق على الزواج. عند إعلان الخطوبة، استنكر أهلها هذا القرار ونصحوها بالرجوع عنه، لكنها كانت مصممة على تنفيذه بأقصى سرعة، وهي التي تلقت تربيتها الشرقية المشبعة بالتعاليم الدينية عن طريق السمع، حيث ظنت أنها أصابت صيدا ثمينا لن تجد مثله على وجه الأرض، وعليها أن تخطفه قبل فوات الأوان

في فرنسا، وجد بلال كامل الحرية التي حلم بها في شبابه فأعاد إلى ذاكرته شريط الحرمان والقيود الاجتماعية المفروضة عليه في بلده الأصلي. غير العقلية وأطلق العنان لمكبوتاته الطفولية وراح يسبح في خيالاته البنفسجية وصار يقضي معظم وقته مع رفاق السوء في جو ملئ باللهو، ونسي واجبه الذي هاجر من أجله تاركا وراءه جدته العجوز وحيدة تبكي لفراقه، ناسيا زوجته التي جعلت منه إنسانا بيده ميزان القوة

بدأت الشكوك تتسرب إلى فراش الزوجية وتحوم حول الزوج السائب ونزل الخبر على أم منى كالصاعقة لكنها جمعت قوتها وطمأنت ابنتها. واستطاعت، شيئا فشيئا، أن تقنع صهرها بالجلوس الى طبيب نفساني والقيام بأنشطة فكرية وتواصلت معه في أغلب الأوقات حتى سدت فراغه وأشعرته بالاهتمام، فصار يبتعد عن رفاق السوء إلى أن انقطع عنهم

بداية جديدة   

بعد أيام، تحصل على منصب عمل في مصنع للسيارات السياحية كعون أمني ليلي، فامتنع عن التدخين بمقتضى القانون الداخلي للشركة، ثم توقف عن شرب الكحول وتناول المخدرات واستمر على تلك الحال يناضل بمساعدة زوجته التي ساهمت بما استطاعت بعد ذلك من مال لفتح مرآب لغسيل السيارات، واكتشف بلال سر السعادة وجمال الحياة في العمل

صار بلال يقلب صفحات كتابه فتذكر جدته التي ربته ودافعت عنه في كل مواقفه، فعزم على زيارتها مع زوجته وبنتيه اللتين لم يرياها إلا في الصور التذكارية التي احتفظت بها أمهما من يوم زواجها

كم كانت المفاجأة سارة حين طرق بابها وخرجت معتمدة على عصاها إذ سبق إليها حفيذتاها وسلما عليها، وربطت الدهشة لسانها حين أسرع إليها بلال وضمها باكيا بحرقة دموع الفرح

رشيد بوخميس

محرر بصوت المهجر

La traduction française de cet article a été publiée le 10.08.2021 sur Voix d’Exils et est accessible ici




خاطرة: نـبُوءَة طالبة

Nick Fewings – unsplash.com.

La version arabe de l’article « Réflexions sur la mort d’Akakyevich » paru sur Voix d’Exils le 11 mai 2017

« إذا نظرت إلى وجه شخص ما لفترة طويلة بما فيه الكفاية، فسوف تشعر في النهاية أنك تنظر إلى نفسك »

بول أوستر، كاتب ومخرج أفلام أمريكي

إحدى الشخصيات التي لا تُنسى في الأدب العالمي، والتي ابتكرها الكاتب الروسي نيكولاي غوغول (1809-1852) في قصته القصيرة الرائعة المعطف (1843)، هي شخصية أكاكي أكاكيفيتش

تَروي القصة سيرة حياة موظفٍ بسيط يعمل نسَّاخاً في إحدى الدوائر الحكومية في مدينة سانت بطرسبرغ في روسيا، حيث يتم دفعه إلى حَتْفه من قبل نظام بيروقراطي قاسٍ وخالٍ من التعاطف الإنساني. تُسَلط القصة الضوء على معاناة الطبقة الفقيرة في المجتمعات وظلم الإنسان لأخيه للإنسان

ترتبط بعضٌ من أعَزِّ ذكرياتي بقصة « المِعْطَف ». تأثرت بها كثيراً عندما قرأتها في السنوات الأولى لدراستي الجامعية. وفي وقت لاحق في الثمانينات, قمت بتدريسها ضمن منهاج وزارة التربية للغة الإنكليزية لطالبات المدرسة الثانوية في مسقط رأسي في مدينة القامشلي بسوريا

في الواقع، لم يكن التعليم وظيفة سهلة على الإطلاق في هذه المنطقة الريفية المُهملة في الشمال الشرقي من البلاد، والتي يسكنها بشكل رئيسي أحفاد اللاجئين الذين فرّوا من القتل في تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، كالسريان والأكراد والأرمن والآشوريين والكلدان وبالطبع العرب. أناسٌ، مازال بعضهم يعانون من صدمات نفسية نتيجة قِصَص الفظائع التي سمعوها من أهاليهم

كانت المدارس تَعْكِس الانقسامات الموجودة في المجتمع. الجوّ كان بعيدا عن الزمالة الدراسية. يجتمع عادة الطلاب في الصفوف ويجلسون على المقاعد وفق خلفياتهم العرقية والدينيّة. كان التواصل بينهم نادرًا، بينما كانت اللغات الأثنية المحلية يتردد صداها بانتظام في كل مكان. أضف إلى ذلك، لم يكن الطلاب أو أولياؤهم يهتمون كثيرا باللغة الإنجليزية كمادة دراسية

أما بالنسبة للمُدَرِّسين، فقد كان عليهم أن يجتازوا أولاً اختبارات التحامُل والقوالب النمطية، قبل أن يتمكّنوا من إكتساب ثقة الطلاب. ولسوء الحظ، كنت أحد هؤلاء المُدَرِّسين كوني أنْحَدرُ من عائلة أرمنية لاجئة نجت بأعجوبة من الإبادة الجماعية

ومع ذلك, تجربتي في تدريس قصة « المِعْطَف » كانت لها نتائج مختلفة تماماً! فمنذ القراءة الأولى للقِصة و التي عادة ما تستغرق قراءتها ثلاث حصص دراسية كل منها خمسون دقيقة وعلى مدى أسبوعين، كنت أرى حدوث تَغيير ملحوظ في سلوك طالباتي. فالاهتمام الشديد بسرد القصة بالإضافة إلى التعاطف العميق مع الموظف الصغير المسكين، كانا يحلان تدريجيّاً محل الثرثرة اليومية واللامبالاة المعتادة في الصف. كنّ يتابعن بتعاطفٍ كبير التدهور التدريجي في حياة أكاكيفيتش إثر تلقيه الصدمات الواحدة تلو الأخرى. الغريب في الأمر، بدا وكأنّ مأساة بطلنا كانت تُقَرّب المجموعات المختلفة من بعضها البعض. كان الصف يَنْفُضُ عن نفسه شيئاً فشيئاً القيود والحدود المعتادة، ويَكشِفُ عن المزيد من الألفة والود. فالفتيات كنّ يبدأن بالإقتراب من بعضهن،  وأحياناً يجلسن معاً في مقعد واحد ويتابعن القراءة من كتاب واحد! وتصبح الدردشات باللغة العربية الرسمية مسموعة أكثر. وهذا لم يكن بالأمر الاعتيادي!

لكن سقوط الموظف المسكين وموته المأساوي هو الذي كان يصْدمهنّ بشدّة ويجعل عيونهنّ تتلألأ بالدموع البريئة

كان هذا الحدث بمثابة تطهيرٍ للعواطف…

كنت أتساءل دائمًا، كيف يحدث كل هذا التحوُّل خلال فترة زمنية قصيرة جدًا؟ كيف يمكن أن تتلاشى طبقات التحامُل وانعدام الثقة في غضون أيامٍ قليلة وتَكْشف عن المشاعر الإنسانية العفوية كالتعاطف والحب؟ ما هو السر؟

ولدهشتي، جاءت الإجابة يوماً باللغة العربية من إحدى الفتيات. قالت بارتباكٍ ظاهر: « أستاذ »، « المِعْطَف » يروي قصة حياتنا البائسة! نحن في الواقع نَندُب مصيرنا التعيس، وليس مصير أكاكيفيتش… « ، ثم غَلبتْها العواطف ولم تستطع المتابعة

الآن، وبعد أن دخلت الحرب في سوريا عامها العاشر وأصبح نصف سكان البلد مشردين، أتذكر أحيانًا الكلمات النُبوئية لتلك الفتاة البالغة من العمر ستة عشر عامًا وأتساءل عن المكان الذي رماها فيه القدر وسط لعبة الحروب المجنونة هذه

هـــ . دونــو

عضو أسرة تحريرصوت المهجر – كانتون فو